اللغة ليست أصواتًا نطلقها لنفهم بعضنا فحسب، بل فضاء تتشكّل فيه الأفكار، وتُصاغ به الهوية، وتُحفظ به الذاكرة الجماعية للأمم. وهذا ما جعل العربية عبر قرون حضارة كاملة، حملت العلوم والفلسفة والشعر والفقه، وظلت قادرة على التجدد رغم تبدل الأزمنة ولعل ما قاله طه حسين يلخص جزءًا من حقيقتها حين وصفها بأنها من أغنى لغات العالم، بل وربما أغناها. هو لا يجامِل في كلامه، بل يشير إلى مخزون مفرداتي واسع يسمح للعربي أن يعبر عن الفكرة الواحدة بصور متعددة، وأن يُلمِّح ويُصرّح ويُجمل ويفصِّل كما يشاء دون أن يفقد المعنى. العربية لغة تتسع للمشاعر الدقيقة كما تتسع للمعارف الثقيلة، وهذا تنوع لا تمنحه اللغات كلها.
أما مصطفى صادق الرافعي فالتقط جانبًا آخر أكثر حساسية حين قال: "ما ذلّت لغة قوم إلا ذلّوا." المعنى واضح وصريح: اللغة ليست تابعًا، بل رأس مال رمزي للأمة. إذا تراجعت اللغة، تراجع معها الفكر، والتعليم، والبحث، والإبداع. حين ننفصل عن لغتنا نفقد الرابط الأمتن مع تاريخنا ومع قدرتنا على إنتاج معرفة من داخل ثقافتنا. لذلك كان الدفاع عن العربية دفاعًا عن الإنسان العربي نفسه، عن قيمه ووعيه ومكانته.
ثم يأتي الجاحظ بعبارته الشهيرة "البيان ترجمان العلم" ليضيء البعد العملي للغة. لا قيمة لعلم لا يُفهم ولا يُنقل، ولا لثقافة لا تجد لسانًا يعرضها ويبررها ويحاور بها العالم. اللغة أداة نقل المعرفة من العقل إلى الورق، ومن الفرد إلى المجتمع. وكلما كانت اللغة دقيقة ومرنة وواضحة، كان العلم أوضح والعقل أقدر على الإبداع. والعربية، بما تملكه من نحو وصرف واشتقاق وبلاغة، تمنح العالم العربي قدرة كبيرة على صياغة الأفكار بتركيب محكم ومعنى عميق.
بهذه الأقوال الثلاثة يتشكل مشهد كامل: غنى لغوي يضمن قدرة التعبير، ارتباط وجودي بين اللغة وكرامة الأمة، ثم بيان رفيع يُمكّن العلم من العبور. ليست العربية مجرد تراث محفوظ على الرفوف، بل طاقة فكرية وثقافية تستحق أن تُصان وأن تُستثمر. وفي النهاية، تذكّر القاعدة البسيطة: من يعتز بلغته يكتب نفسه في التاريخ، ومن يهملها يكتب نهايته بصمت.