الاحتفاء باللغة العربية هذا العام لم يأتِ بطابع رمزيّ، بل ترافق مع تحوّل فعلي في السياسات اللغوية، أبرزها إطلاق جائزة رئيس الجمهورية للّغة العربية وما فرضته من عتبة علمية صارمة. الجائزة لم تكن مجرد تكريم، بل إعلان عملي بأن العربية تدخل مرحلة اشتغال مؤسساتي جديد، يربط الهوية بالمعرفة، واللغة بصناعة القرار.
في هذا السياق، يكشف رئيس المجلس الأعلى للّغة العربية، صالح بلعيد، رؤية واضحة حول وضع العربية اليوم، وحصيلة الإصلاحات، وموقع اللغة في عهد الرئيس تبون، وكيف تتعامل الجزائر مع تحديات الذكاء الاصطناعي والترجمة الآلية.
حاورته : شهيرة حاج موسى
ما تقييمكم الحقيقي لوضع العربية اليوم في الجزائر؟ هل تقدمنا فعلاً أم ما زلنا في دائرة الخطابات دون أثر ملموس؟
في إطار الحديث عن الوضع اللغوي في الجزائر، وبخاصة وضع اللغة العربية، نلاحظ أن البلاد شهدت تحوّلاً جذرياً منذ الاستقلال. هذا التحول طبيعي، ولا يمكن إنكاره، رغم بعض التعثّرات والعدميات التي تعترض المسار.
هناك عوامل وظروف أحياناً تؤدي إلى توقف عمليات مهمة، مثل توقف عملية التعريب التي كان من المفترض أن تكتمل سنة 1999–2000. ومع ذلك، شهدت المنظومة التربوية تطورات متتالية: إصلاحات المدرسة الجزائرية، وأوامر 1967، وتجربة المدرسة الأساسية، ثم إصلاحات 2003، وصولاً إلى إصلاحات الجزائر الجديدة اليوم، التي لها نقلة نوعية ، خصوصاً في ما يتعلق بالكتاب المدرسي واللجان الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية، إضافة إلى إدماج اللغة الأمازيغية ضمن النظام التربوي.
ورغم التعثرات، فإن هناك مكتسبات إيجابية كبيرة. غير أن بعض الإشكالات ما تزال قائمة، منها عدم تعميم العربية في التعليم الجامعي، وهو أمر يتطلب مراجعة. نحن مع الانفتاح على اللغات الأجنبية، لكن المواد الأساسية ينبغي أن تُدرَّس باللغة الأم، مع فتح تخصّصات لغوية بحسب الحاجة: الفرنسية للدبلوماسية، الروسية للصناعة الحربية، الإنجليزية والألمانية للعلوم الدقيقة والتكنولوجيا، وهكذا يتحقق الانفتاح الإيجابي على اللغات ذات الريادة العلمية.
الانفتاح نفسه مطلوب في مجالات كعلوم الخرائط وعلوم البحار وغيرها. الهدف هو امتلاك قدرة واسعة على الاطلاع والتواصل مع العالم، دون التنازل عن الخصوصيات اللغوية والثقافية: العربية كلغة أم، العربية بحمولتها الدينية، وبتراثها الشعري والحضاري، مع الانفتاح على الضفة الغربية (أوروبا) واللغات الشرقية (التركية، الفارسية، البنغالية…).
السياسة اللغوية تبنى على مبدأين: حماية اللغة الأم، والمرونة اللغوية التي تتيح الاستفادة من التعدد اللغوي لتحقيق المنافع السياسية والاقتصادية والتجارية، خصوصاً في ظل توسع أدوات الاتصال والتواصل العالمي.
ما أهم الإجراءات العملية التي اتخذها المجلس خلال السنوات الأخيرة؟ وما الذي يمكن للمواطن أن يلمسه فعلياً على الأرض؟
بالعودة إلى المجلس الأعلى للغة العربية، تجدر الإشارة إلى أن دوره يقترح الأفكار ويقدّمها لصانع القرار. من بين المشاريع المنجزة مشروع “الرصيد اللغوي المدرسي الوظيفي”، المستلهم من تجارب دول طورت لغاتها بالاستثمار في المدرسة. فلا يمكن لأي أمة أن تتقدم دون إصلاح المدرسة، لأنها مصدر تكوين كل الكفاءات. فالإصلاحات لابد أن تمر عبر قنوات ثلاثة هي المدرسة والتي عرفتها المدرسة الجزائرية، ثانيا الإعلام لان الإعلام يعتبر قطب قوي التأثير ، ثالثاً الاستعمال وهنا نقصد بها الإدارات ، فالإصلاحات تبدأ بالاستثمار في القنوات الثلاث
ومثلما تُغذّى الأجهزة التقنية بمصطلحات محددة تبعاً للغرض منها، تُغذّى المنظومات التربوية بالمفاهيم التي تُراد لها. والمثال على ذلك فكرة المواد المتفجرة التي وُضعت أصلاً لشق الجبال، ثم استُعملت في التدمير، فاضطر ألفريد نوبل إلى التكفير عن ذلك بابتكار جائزة نوبل للسلام. المعنى: المفاهيم حين تُوظَّف في غير محلها تفسد وظيفتها الأصلية.
ماذا عن اللغة العربية في عهد الرئيس تبون؟
اللغة العربية هي لغة الأمة، ومنذ تولّي رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون مهامه، جاءت خطاباته السياسية معرّبة بالكامل، في توجّه يعكس قناعة واضحة بأن العربية عنصر سيادي وثقافي لا جدال فيه. الإصلاحات التي عرفتها المنظومة التربوية والفكرية أبرزت هذا التوجه، إذ شهدت المدارس العليا تماهيًا أكبر مع العربية والإنجليزية، وبدأت تظهر ملامح إدماج العربية في صناعة الأجهزة والحواسيب الإلكترونية والذكاء الاصطناعي. كما تم إدخال اللغة الإنجليزية في المرحلة القاعدية من التعليم الابتدائي، وهو خيار أثبتت نتائجه الأولية خلال أربع سنوات قدرة التلاميذ والشباب على اكتساب اللغة بكفاءة أفضل.
في عهد الرئيس تبون، جرى التعامل مع اللغة العربية باعتبارها قضية سيادية وثقافية، وتمّ تعزيز ذلك بإطلاق جائزة رئيس الجمهورية للّغة العربية، وبتوجيهات لإعادة النظر في التكوين الإعلامي بما يعزّز الشعور بالمسؤولية الحضارية تجاه اللغة. كما اعتُبر إدخال الإنجليزية خطوة صائبة دعمتها رئاسة الجمهورية وأكدت ضرورة احترام هذا التوجّه والتماهي معه.
هلا قدمت لنا تفاصيل جائزة رئيس الجمهورية للغة العربية – النسخة الأولى؟
فُتح باب المشاركة في الجائزة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية 2025، واستُقبلت الأعمال من مارس إلى غاية 30 أكتوبر، المصادف لليوم العالمي للترجمة، باعتباره آخر أجل لتسلّم المشاركات.
وقد بلغ عدد الأعمال المستلمة 225 عملاً في أربعة مجالات، واعتمدت اللجنة العلمية 215 عملاً منها للدراسة. وبعد التقييم، مُنح الامتياز في مجالين فقط، بينما حُجب مجالان لعدم استيفاء الأعمال المشاركة للمعايير العلمية المطلوبة.
الأعمال المتوجة توزعت على:
ستة أعمال في المجال الأول وستة أعمال في المجال الرابع ،وستُنشر هذه الأعمال ورقيًا ورقميًا في اليوم العالمي للغة العربية، مع الإعلان الرسمي عن فتح الطبعة الثانية للجائزة سنة 2026.
وفي اطار الاحتفال بالشهر اللغة العربيةينظم المجلس الأعلى للّغة العربية، وللمرّة الثالثة، "شهر اللغة العربية"، وهو تقليد انطلق من الجزائر قبل أن تتبناه دول عربية أخرى، مثل المملكة العربية السعودية.
ويتضمن الشهر ثلاث دوريات موزعة عبر:
الجنوب (الصحراء الكبرى): ندوات، ملتقيات، لقاءات ميدانية، زيارات متاحف ومكتبات مرتبطة بالمخطوطات ومشاريع رقمنتها.والشرق الجزائري.والغرب الجزائري.
كما يحضر المجلس في المدارس، بعد تعليمة من وزارة التربية لكل مديرياتها بالاحتفاء باللغة العربية. ويشارك في الفعاليات كل من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ووزارة البريد والاتصالات التي ستصدر طوابع بريدية مخصصة للعربية، ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف.
مع تغيّر قواعد اللغة في عصر الذكاء الاصطناعي، كيف يضمن المجلس حضور العربية في هذا التحوّل؟
الرقمنة اليوم لم تعد خيارًا بل تحوّلت إلى ضرورة. نحن نعيش انتقالًا من الورقي إلى "ما بعد الورقي"، حيث تُصبح البيانات محور السيطرة والإنتاج والتأثير.
الذكاء الاصطناعي يمنح موقعًا لمن يملك بياناته، ويستطيع معالجة المعلومة بسرعة واتخاذ القرار حين يتردد الإنسان. لذلك يرى المجلس أن الذكاء الاصطناعي فرض عين لا يمكن تجاهله، وأن إدخال العربية في فضائه ضرورة لحماية الهوية.
العمل منصبّ على "أنسنة" الذكاء الاصطناعي، أي تزويده بالمعايير الدلالية والثقافية العربية. فعندما يقرأ نموذجٌ آلي بيتًا حماسيًا، يتعرف على مصطلحات الحماسة وسياقها. هذا ما يضمن أن تكون للعربية مكانتها في النماذج اللغوية والتطبيقات الذكية، بدل أن تبتلعها اللغات المهيمنة.
مع توسّع الترجمة الآلية في عصر الذكاء الاصطناعي، كيف يمكن ضمان دقّة ترجمة العربية وحماية خصوصيتها اللغوية؟
من بين العوامل التي تصعّب الأمر على الذكاء الاصطناعي:العربية لغة فعلية، بينما الإنجليزية والفرنسية لغات اسمية.
والعربية تُكتب من اليمين إلى اليسار، بخلاف اللغات الهندوأوروبية و كذا المعجم العربي واسع جداً (يتجاوز 12 مليون مفردة)، بينما المعاجم الأوروبية أضيق بكثير وأيضا الاشتقاق في العربية شديد التعقيد مقارنة باللغات اللاصقة. بالاضافة الى الكلمة العربية تتغير جذرياً بحسب الموقع الإعرابي والعوامل الداخلة عليها.والترادف والتعدد الدلالي في العربية لا نظير له في اللغات الأوروبية.
مثلاً: كلمة “ضرب” وحدها تتشعب إلى عشرات الدلالات: ضرب في الأرض، ضرب موعداً، ضرب الخيمة… إلخ.
هذه الطبيعة الاشتقاقية والدلالية تجعل العربية أصعب لغة على أنظمة الذكاء الاصطناعي.
هل يمكن الاعتماد على الترجمة الآلية؟
لا بد من التمييز بين الترجمة (الكتابية) والترجمان (الشفهي). الترجمة بين الفرنسية والإنجليزية وصلت اليوم إلى مستوى دقيق جداً. لكن الترجمة من الإنجليزية والفرنسية إلى العربية ما تزال تعترضها عوائق كبيرة بسبب طبيعة العربية نفسها.
نعم، يمكن الاعتماد عليها جزئياً في النصوص البسيطة والمباشرة، لكن لا يمكن الاعتماد عليها اعتماداً كاملاً دون تدخل بشري، وخاصة في النصوص الأدبية والعلمية الدقيقة. العربية تحتاج إلى نماذج مدرّبة بعمق على بنيتها الخاصة، وهذا لم يتحقق بعد بشكل كامل.
ومثلما تُغذّى الأجهزة التقنية بمصطلحات محددة تبعاً للغرض منها، تُغذّى المنظومات التربوية بالمفاهيم التي تُراد لها. والمثال على ذلك فكرة المواد المتفجرة التي وُضعت أصلاً لشق الجبال، ثم استُعملت في التدمير، فاضطر ألفريد نوبل إلى التكفير عن ذلك بابتكار جائزة نوبل للسلام. المعنى: المفاهيم حين تُوظَّف في غير محلها تفسد وظيفتها الأصلية.
لا بد من التمييز بين الترجمة (الكتابية) والترجمان (الشفهي). الترجمة بين الفرنسية والإنجليزية وصلت اليوم إلى مستوى دقيق جداً. لكن الترجمة من الإنجليزية والفرنسية إلى العربية ما تزال تعترضها عوائق كبيرة بسبب طبيعة العربية نفسها.
من بين العوامل التي تصعّب الأمر على الذكاء الاصطناعي:العربية لغة فعلية، بينما الإنجليزية والفرنسية لغات اسمية.و العربية تُكتب من اليمين إلى اليسار، بخلاف اللغات الهندوأوروبية.وأيضا المعجم العربي واسع جداً (يتجاوز 12 مليون مفردة)، بينما المعاجم الأوروبية أضيق بكثيروالاشتقاق في العربية شديد التعقيد مقارنة باللغات اللاصقة والكلمة العربية تتغير جذرياً بحسب الموقع الإعرابي والعوامل الداخلة عليها وكا ان الترادف والتعدد الدلالي في العربية لا نظير له في اللغات الأوروبية
مثلاً: كلمة “ضرب” وحدها تتشعب إلى عشرات الدلالات: ضرب في الأرض، ضرب موعداً، ضرب الخيمة… إلخ.
هذه الطبيعة الاشتقاقية والدلالية تجعل العربية أصعب لغة على أنظمة الذكاء الاصطناعي.
رسالة إلى شباب اليوم بمناسبة الاحتفاء باللغة العربية …
رسالتي للشباب انه لم يثبت في أي دولة في العالم تقدمت بالغة الأجنبية ، الأمة تحتفي بلغاتها فهي الأساس ، فاللغة هي من تمنحك الهوية فهي تربحك ترجمة وفهم العلوم و تفهم الانسجام الجمعي تصور انه لما يكون المسؤول الأكبر صاحب الحوكمة بلغة وصاحب العمالة بلغة فسيحدث هناك قطيعة بين الرأس المدبر و الجهاز المنفذ حيث أن كان كل منهما له لغة فسيحدث شرخ مجتمعي ، لما تكون لغة أحاد سيكون هناك أفكار موحدة ومستقبل واحد والتنمية مستمرة .