تُعدّ اللغة العربية في الجزائر ركناً أساسياً من أركان الهوية الوطنية، وإرثاً ثقافياً وروحياً يشترك فيه جميع الجزائريين، ويُوحِّد الأمة فوق اختلافاتها وتعدديتها. وبسلسلة من المبادرات المتواصلة، تُجدّد الجزائر التزامها العميق بحماية هذه اللغة وتحديثها وترقيتها إلى المكانة التي تستحقها في العلم والثقافة والتكنولوجيا.
قاد رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، خلال السنوات الأخيرة، توجّهاً استراتيجياً واضحاً لتعزيز اللغة العربية داخل المنظومة التعليمية والثقافية، ما جعل ترقية العربية محوراً ثابتاً في السياسات العمومية.
جائزة رئيس الجمهورية للأدب واللغة العربية
من أبرز المبادرات في هذا المسار استحداث “جائزة رئيس الجمهورية للأدب واللغة العربية”، وهي جائزة سنوية تُكرّم الإبداع والتميّز، وتشجع البحث العلمي والإنتاج المعرفي بالعربية. وقد فُتح باب الترشح لدورتها الأولى حتى 31 أكتوبر الماضي، بينما سيجري توزيع الجائزة يوم 18 ديسمبر المقبل، تزامناً مع اليوم العالمي للّغة العربية الذي تحتفي به الأمم المتحدة.
وتستهدف الجائزة الكتّاب والباحثين والأكاديميين الجزائريين الذين يسهمون في إبراز العربية وإشعاعها. ويشترط للتقدم أن يكون العمل مكتوباً بالعربية، فردياً، ذا قيمة علمية أو أدبية معتمدة، ولم يسبق تتويجه. وتشمل مجالات المشاركة: الأدب، العلوم الإنسانية والاجتماعية، اللسانيات، البحث العلمي، والترجمة.
دور المجلس الأعلى للغة العربية
يتولى المجلس الأعلى للّغة العربية—وهو هيئة دستورية تابعة لرئاسة الجمهورية—مهمة رعاية اللغة العربية وتوسيع استعمالها، لا سيما في الميادين العلمية والتكنولوجية. ويقدم المجلس سنوياً تقريراً مفصلاً لرئيس الجمهورية حول وضع العربية في الوزارات والمؤسسات والهيئات التربوية، إضافة إلى مقترحات تطوير ورؤى مستقبلية.
كما يعمل المجلس على تعزيز التعاون الوطني والدولي، وتنظيم فعاليات علمية وثقافية، واقتراح قيمة الجوائز للأعمال المتميزة بالعربية. ومن بين أنشطته، تنظيم ملتقى "اللغة العربية والبودكاست" في فيفري الماضي، لبحث إمكانات انخراط العربية في وسائط التعبير الرقمي الحديثة.
وفي إطار مهامه لسنة 2025، أنشأ المجلس لجنة لإعداد الأطلس اللغوي للجزائر، تضم أساتذة في اللسانيات وخبراء في المعلوماتية، بهدف إطلاق منصة تحدد بدقة انتشار اللغات عبر مناطق البلاد.
العربية… لغة هوية وريادة معرفية
اللغة العربية في الجزائر ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي مكوّن جوهري من مكوّنات الهوية الوطنية. فهي لغة القرآن والأدب والفكر، وتحمل إرثاً ثقافياً وروحياً عميقاً. وكما يؤكد رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، فإن العربية “تزخر بقيم إنسانية كونية” وتنقل مبادئ الكرامة والمعرفة والتضامن.
وقد حافظت الدولة دوماً على مبدأ احترام التعدد اللغوي، حيث ينص الدستور على ترقية اللغة الأمازيغية بجميع تنوعاتها باعتبارها رصيداً وطنياً مشتركاً.
تحديات العصر: تحديث العربية ومواكبة العلوم
أبرز التحديات التي تواجه العربية اليوم يتعلق بقدرتها على التحديث. فمع صعود اللغات الأجنبية في مجالات العلم والاقتصاد، بات لزاماً على العربية أن تعيد إنتاج نفسها كلغة قادرة على الاندماج في العصر الرقمي، ومواكبة الابتكار والبحث العلمي.
يشدد الخبراء على ضرورة دعم العربية بالتطبيقات والخوارزميات الحديثة وبناء محتوى رقمي ضخم يسمح لها بأن تكون لغة علمية معاصرة. كما تعد الترجمة ركيزة أساسية لتجديد العربية والانفتاح على اللغات الأخرى، كونها وسيلة لنقل المعرفة وتعزيز التفاعل الثقافي.
وتتميّز العربية تاريخياً بثروة لغوية هائلة؛ إذ تضم أكثر من 12 مليون كلمة وعشرات الآلاف من الجذور، ما يجعلها من أغنى لغات العالم من حيث القدرة على التعبير والإبداع والتجريد.
وعلى المستوى الدولي، تُعد العربية لغة رسمية في 22 دولة، وثانية رسمية في 26 دولة أخرى، كما تعتمدها 12 مؤسسة دولية كالأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومنظمة الصحة العالمية والفيفا والإنتربول والبنك الإسلامي للتنمية.
العربية في العصر الرقمي
شهدت اللغة العربية خلال العقد الأخير تحوّلاً كبيراً في الفضاء الرقمي. ففي سنة 2012، كان عدد مستخدمي العربية على الإنترنت نحو خمسة ملايين. أما اليوم، فقد تجاوز عددهم 136 مليون مستخدم، ما يجعلها رابع أكثر اللغات استخداماً عبر الشبكة.
ويعكس هذا الصعود الحيوية المتزايدة للمجتمعات الناطقة بالعربية وقدرتها على إنتاج محتوى رقمي متنوع. ولعبت الجزائر دوراً محورياً في نشر هذا المحتوى عبر الإعلام الرقمي والمدونات والمنصات التعليمية.
ويؤكد المجلس الأعلى للغة العربية أن مستقبل العربية يمر عبر المدرسة وبناء وعي لغوي لدى الأجيال الصاعدة، عبر استعمالها في التعليم والإبداع والإنتاج الثقافي والفني، حتى تكون لغة حياة يومية، لا مجرد تراثاً محفوظاً.
تبرهن المبادرات الوطنية، من “جائزة رئيس الجمهورية” إلى مشاريع المجلس الأعلى والبرامج الثقافية والعلمية، على أن الجزائر تعمل بجدية لترقية اللغة العربية وتعزيز حضورها في المجالات كافة.
فالعربية ليست مجرد لغة الماضي، بل هي إحدى بوابات المستقبل، ومحور أساسي في مشروع الهوية والسيادة الثقافية للجزائر.